مقدمة
لطالما شغل سؤال العلاقة بين الأدب والأخلاق النقاد والفلاسفة والكتّاب على حد سواء، هل يجب أن ينضبط الإبداع الأدبي لمعايير أخلاقية؟ أم أن الحرية الفنية مقدّسة لا تقبل القيد؟ في زمن تتداخل فيه حدود التعبير مع قضايا المجتمع، تزداد أهمية هذا السؤال، لا سيما مع تصاعد الأصوات المنادية بمسؤولية الكاتب تجاه قرّائه ومجتمعه، إزاء ما يكتبه أو يطرح فيه السوق للقراء.
أولًا : جذور الجدل بين الأدب والأخلاق
لم يكن هذا النقاش وليد اللحظة، بل له جذور ضاربة في أعماق التاريخ، في جمهورية أفلاطون مثلا، طُرد الشعراء من المدينة الفاضلة بدعوى أنهم يحاكون الانفعالات ويضلّلون العقول، بينما كان أرسطو أكثر توازنًا، معتبرًا أن الأدب يؤدي وظيفة “التطهير” (Catharsis) من خلال إثارة العواطف.
وفي العصور الإسلامية، كان للأدب بُعد تعليمي وتربوي، يُنظر إليه كأداة لتزكية النفس وتمرير القيم من جيل إلى آخر، بينما في العصر الحديث، خاصة مع التيارات الحداثية وما بعد الحداثة، بدأت الأصوات تتعالى لتفصل بين النص الأخلاقي والنص الفني، معتبرة أن الإبداع لا يخضع لمعايير الوعظ أو التهذيب.
ثانيًا : الحرية الفنية أم المسؤولية الأخلاقية؟
يرى أنصار الحرية المطلقة أن الأدب يجب أن يكون صادقًا مع نفسه، لا مع القيم المجتمعية، والكاتب حسب وجهة نظرهم ليس مربيًا بل مرآة تعكس الواقع، حتى في بشاعته وقذارته، ولذلك، يُعدّ الحديث عن “أخلاق الأدب” نوعًا من الرقابة المفروضة وغير الجائزة.
لكن في المقابل، يعتقد آخرون أن الإبداع لا ينفصل عن القيم، وأن الكاتب مسؤول عن تأثير كلماته، فالنصوص التي تروّج للعنف أو العنصرية أو ازدراء الآخر، لا يمكن فصلها عن أثرها في تشكيل وعي القرّاء، لا سيما الشباب.
ثالثًا: هل كل نص أدبي يحمل موقفًا أخلاقيًا؟
حتى أكثر الأعمال الأدبية “تحررًا” تتضمن في طياتها موقفًا أخلاقيًا ما، وإن لم يكن وعظيًا، فحين يصف الروائي مشهدًا قاسيًا، فهو إما ينتقده ضمنيًا أو يعيده إلى سياق أكبر لفهمه، فالأخلاق هنا ليست خطابا مباشرة، بل رسالة خفية تتسلل عبر السرد.
أمثلة كثيرة توضح هذا التداخل، كأعمال دوستويفسكي التي تطرح أعمق الأسئلة الأخلاقية دون أن تُملي إجابات، أو روايات نجيب محفوظ التي تنقل الواقع المصري بكل تناقضاته.
رابعًا: كيف نقرأ الأدب قراءة أخلاقية دون أن نفرغه من فنيّته؟
القراءة الأخلاقية لا تعني البحث عن “الرسالة المباشرة” في النص، بل تحليل موقف الكاتب من شخصياته، ومن العالم الذي يرسمه، هل يُضفي على العنف شرعية؟ هل يُصوّر المرأة كجسد فقط؟ هل يُبرر الاستبداد أو يُدين الظلم؟ هذه أسئلة أخلاقية تُثري القراءة ولا تُعيقها.
النقد الأخلاقي الواعي لا يهدف إلى “محاكمة” النصوص بل إلى إضاءة أبعادها، وتفكيك رسائلها الضمنية، دون أن يفرض وصايته عليها.
خامسًا: هل يمكننا التوفيق بين الفن والقيم؟
نعم، شرط أن نفهم أن القيمة الفنية لا تُلغي القيمة الأخلاقية، والعكس صحيح، النصوص العظيمة غالبًا ما تُبهرنا فنيًا وتُقلقنا أخلاقيًا، وهي التي تجعلنا نفكر لا فيما حدث فقط، بل لماذا حدث؟ وماذا يعني لنا؟
الإبداع الأصيل لا ينفصل عن أسئلتنا الكبرى: عن العدالة، والحرية، والكرامة، والحب، والألم، وحتى لو عبّر عنها بطرق صادمة أو غير تقليدية، فإنه يظل أخلاقيًا بمعناه الأعمق: بقدرته على إيقاظ الضمير لا تهدئته.
خاتمة: أدب بلا ضمير أم ضمير بلا أدب؟
يبقى سؤال: هل يحتاج الأدب إلى أخلاق؟ مفتوحًا للتأمل، لا للحسم، لكنه سؤال ضروري، لأننا حين نتعامل مع الأدب كسلعة ترفيهية فقط، نقتل روحه، وحين نطالبه بأن يكون “واعظًا” فقط، نكسر جناحيه.
في عالم يزداد فيه الضجيج، نحتاج إلى أدب يجرح أحيانًا، لكنه يُضيء الدروب، أدب لا يُرعبنا من الحقيقة والواقع، بل يدفعنا لأن نواجهها بشجاعة.
“الكلمة دواء … وترياقنا ثقافة”