أروقة الإبداع

هل يمكن للمفكر أن يكون بعيدًا عن السياسة؟

في عالمٍ تموج فيه الأحداث وتتسارع فيه التحولات، يُطرح سؤال جوهري:  هل يمكن للمفكر أن يكون محايدًا أو بعيدًا عن السياسة؟
سؤال ظاهره بسيط، لكن باطنه يعصف بجوهر العلاقة بين الفكر والسلطة، بين التأمل والواقع، بين النظرية والممارسة.
المفكر، في تعريفه الضيق، ليس مجرد شخص ينتج أفكارًا في برج عاجي، بل هو شاهد على زمانه، وقارئ لأسئلته، ومشارك بقوة أو بصمت في صياغة وعيه.

  1. الفكر موقف لا حياد فيه

الفكر بطبيعته فعلٌ غير محايد، لأنه يقوم على السؤال، والشك، وإعادة الترتيب، والمفكر حين يُسَائل الواقع، فهو يمس البنية السياسية للمجتمع، حتى لو لم يعلن ذلك صراحة.
كل فكرة تُنتج عن “العدالة”، أو “الحرية”، أو “الهوية”، هي في جوهرها طرح سياسيّ بمعناه الواسع، لأنها تمس مصالح، وتُربك سلطات، وتفتح الأبواب على احتمالات جديدة.

  1. من أفلاطون إلى سارتر: المفكر والسلطة عبر العصور

لم يكن الفلاسفة الكبار يومًا بعيدين عن الشأن العام :

  • أفلاطون كتب “الجمهورية” ليضع تصوره للدولة العادلة ؛
  • سبينوزا انتُقد بشدة لأنه ربط الدين بالسلطة وأسس لمفهوم الحرية ؛
  • جان بول سارتر رفض الصمت إبان الحرب والاحتلال، مؤمنًا بأن “الصمت السياسي خيانة فلسفية”.

لقد فهم هؤلاء أن الفكر إما أن يكون في صف الإنسان، أو في صف السلطة ضده، حتى وإن تزيّن بالحياد.

  1. المثقف الصامت : هل هو بريء أم متواطئ؟

هناك من يختار الصمت، تحت شعار “الحياد”، أو “التركيز على الجمال والفن والفكر المجرد”، لكن، في زمن الأزمات، يصبح الصمت موقفًا، وقد يكون أحيانًا تواطؤًا غير مباشر مع الباطل أو الظلم والاستبداد.

كما قال إدوارد سعيد :

لا يوجد شيء اسمه مثقف محايد ؛ المثقف الحقيقي هو الذي ينحاز للحق، لا للسلطة.

وهذا لا يعني أن يتحول المفكر إلى ناشط سياسي، بل أن يدرك مسؤوليته الأخلاقية تجاه ما يجري، وأن يكون صوته شاهدًا لا صامتًا.

  1. هل تقتل السياسة الفكر؟ أم تحييه؟

كثيرًا ما يُقال إن اقتراب المفكر من السياسة يُفسد فكره، ويجعله تابعًا لأيديولوجيا م أو للنظام، وهذا خطر حقيقي إذا غاب الوعي أو الاستقلال.
لكن حين يقترب المفكر من السياسة بشروطه لا بشروطها، يصبح فكره أكثر تأثيرًا وعمقًا، لأنه يخاطب الواقع لا الهامش.
السياسة لا تقتل الفكر، بل تكشف جوهره :  هل هو فكر حر، أم ترف نظري؟

  1. الفكر والسياسة : علاقة توتر وإنتاج

العلاقة بين الفكر والسياسة ليست علاقة خضوع، بل توتر خلاق، فالمفكر هو من يضع السلطة تحت المجهر، ويكشف مشاكلها وتجاوزاتها، ويقترح بدائل لذلك.
قد لا يغير العالم، لكنه يحرّك الوعي، ويوقظ الأسئلة، ويفتح النوافذ، وهذا في ذاته عمل سياسي، حتى لو لم يُعلن عنه بتصريح.

خاتمة : الصمت لا يُنقذ الفكر

في النهاية، لا يمكن فصل الفكر عن السياسة كليًا، قد يختار المفكر مسافة، لكنه لا يستطيع الانفصال الكامل عن الأسئلة السياسية التي تطارد الضمير والواقع.
إن المفكر الحقيقي، هو الذي يختار قول “لا” حين يخاف الجميع، ويضيء فكرةً في زمن العتمة، فالصمت قد يُريح، لكنه لا يُغيّر… بينما الكلمة الصادقة، تُرعب، لكنها تُوقظ.

 

“الكلمة دواء … وترياقنا ثقافة”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى